فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}..
بل الدواب أحسن حالًا. فهي تحمل أوزارًا من الأثقال. ولكن هؤلاء يحملون أوزارًا من الآثام! والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح. وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم. مشيعين بالتأثيم:
{ألا ساء ما يزرون}..
وفي ظلال هذا المشهد الناطق بالخسارة والضياع، بعد ذلك المشهد الناطق بالهول والرهبة.. يجيء الإيقاع الأخير في هذا المقطع؛ بحقيقة وزن الدنيا ووزن الآخرة في ميزان الله؛ وقيمة هذه الدنيا وقيمة الآخرة في هذا الميزان الصحيح: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}..
هذه هي القيمة المطلقة الأخيرة في ميزان الله للحياة الدنيا وللدار الآخرة.. وما يمكن أن يكون وزن ساعة من نهار، على هذا الكوكب الصغير، إلا على هذا النحو، حين توازن بذلك الأبد الأبيد في ذلك الملك العريض. وما يمكن أن تكون قيمة نشاط ساعة في هذه العبادة إلا لعبًا ولهوًا حين تقاس إلى الجد الرزين في ذلك العالم الآخر العظيم..
هذا تقييم مطلق.. ولكنه في التصور الإسلامي لا ينشئ- كما قلنا- إهمالًا للحياة الدنيا ولا سلبية فيها ولا انعزالًا عنها.. وليس ما وقع من هذا الإهمال والسلبية والانعزال وبخاصة في بعض حركات التصوف والزهد بنابع من التصور الإسلامي أصلًا. إنما هو عدوى من التصورات الكنسية الرهبانية؛ ومن التصورات الفارسية، ومن بعض التصورات الإشراقية الإغريقية المعروفة بعد انتقالها للمجتمع الإسلامي!
والنماذج الكبيرة التي تمثل التصور الإسلامي في أكمل صورة، لم تكن سلبية ولا انعزالية.. فهذا جيل الصحابة كله؛ الذين قهروا الشيطان في نفوسهم، كما قهروه في الأنظمة الجاهلية السائدة من حولهم في الأرض؛ حيث كانت الحاكمية للعباد في الإمبراطوريات.
هذا الجيل الذي كان يدرك قيمة الحياة الدنيا كما هي في ميزان الله، هو الذي عمل للآخرة بتلك الآثار الإيجابية الضخمة في واقع الحياة، وهو الذي زاول الحياة بحيوية ضخمة، وطاقة فائضة، في كل جانب من جوانبها الحية الكثيرة.
إنما أفادهم هذا التقييم الرباني للحياة الدنيا وللدار الآخرة، أنهم لم يصبحوا عبيدًا للدنيا. لقد ركبوها ولم تركبهم! وعبدوها فذللوها لله ولسلطانه ولم تستعبدهم! ولقد قاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، ولكنهم كانوا يبتغون في هذه الخلافة وجه الله، ويرجون الدار الآخرة. فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، ثم سبقوهم كذلك في الآخرة!
والآخرة غيب. فالأيمان بها سعة في التصور. وارتقاء في العقل. والعمل لها خير للمتقين يعرفه الذين يعقلون:
{وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}..
والذين ينكرون الآخرة اليوم لأنها غيب إنما هم الجهال الذين يدعون العلم.. فالعلم علم الناس- (كما سنذكر فيما بعد) لم يعد لديه اليوم حقيقة واحدة مستيقنة له إلا حقيقة الغيب وحقيقة المجهول!!!. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)}.
التفسير: لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال: {ومنهم من يستمع إليك} قال ابن عباس: حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: ما تقول في محمد؟ فقال: ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك. شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، وكان يحدث قريشًا فيستملحون حديثه فنزلت الآية. والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئًا وستره من الأغطية والقفل، ومنه أكننت وكننت. وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم. والوقر الثقل في الآذان. والتركيب يدور على الثقل ومنه الوِقر بالكسر الحمل، والوقار الحلم. وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه. وقالت المعتزلة: لا يمكن أجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار، ولأنه يكون تكليفًا للعاجز. ولم يتوجه ذمهم في قولهم: {وقالوا قلوبنا غلف} [البقرة: 88] فلابد من التأويل وذلك من وجوه الأول: قال الجبائي: إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراءته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة، وعلى آذانهم الثقل. وزيف بأن المراد لوكان ذلك لقيل أن يسمعوه بدل {أن يفقوه}.
وبأن قوله: {وأن يروا كل آية} أي كل دليل وحجة {لا يؤمنوا بها} لا يناسبه. الثاني: أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان. الثالث: يقال: إنه جبل على كذا إذا كان مصّرًا عليه وذلك على جهة التمثيل. الرابع: لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه. الخامس: أن هذا حكاية قولهم: {في اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان. وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7] والإفراد في {يستمع} والجمع في {قلوبهم} اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى {حتى إذا جاؤك} هي حتى المبتدأة التي يقع بعدها الجمل كقوله: حتى ماء دجلة أشكل.
والجملة هاهنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله: {إذا جاؤك} يقول: {ويجادلونك} في موضع الحال. ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم {ويجادلونك} حال بحاله {ويقول} تفسير له. والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة. ثم فسر الجدل بأنهم يقولون {إن هذا إلا أساطير الأولين} وأصل السطر هو أن يجعل شيئًا ممتدًا مؤلفًا في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أسطار وجمع الجمع أساطير. وقال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة. وقال أبو زيد: لا واحد له كعباديد. قال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها. ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر. إلى أن الإغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير. ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزًا كما الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزوا عن آخرهم دون تلك فظهر الفرق. ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله: {وهم ينهون عنه} قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك: عن القرآن وتدبره والاستماع له {وينأون عنه} والنأي البعد. نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في نأى وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي. وقيل: الضمير للرسول والمراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته، جمعوا بين قبيحين: النأي والنهي فضلوا وأضلوا. وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به.
روي أن قريشًا اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءًا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وأبشر وقر بذلك منك عيونا

وعرضت دينًا لا محالة أنه ** من خير أديان البرية دينا

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

لولا الملامة أو حذاري سبة ** لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا

وضعفت هذه الرواية بقوله: {إن يهلكون إلا أنفسهم} يعني بما تقدم ذكره، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك. ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط.
ثم بيَّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} وجواب لو محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك. وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب. ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت: لأضربنك. ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال: {وقفوا} بلفظ الماضي مع إذا الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها، أو وقفوا عليها وهي تحتهم، أو هو من قولهم: وقفت على المسألة الفلانية وقوفًا أي عرفوا حقيقتها تعريفًا أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون على بمعنى في وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء {يا ليتنا نردّ} هو داخل في حكم التمني. أما قوله: {ولا نكذب ونكون} فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار أن على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين. ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان: أحدهما أن التمني يتم عند قوله: {نرد} ثم ابتدؤا {ولا نكذب ونكون} أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل. وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني. وثانيهما أن يكونا معطوفين على {نرد} أو حالين على معنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيدخل المجموع تحت حكم التمني. وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذبًا وقد قال تعالى: {وإنهم لكاذبون} وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل: ليت الله يرزقني مالًا فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالًا ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال: إن رزقني الله مالًا أحسنت إليك.
وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا. قال أكثر المفسرين: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى {بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} وقال المبرد: بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهرًا لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة. وقال الزجاج: بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} وهذا قول الحسن. وقيل: إنها في المنافقين كانوا يسرون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقيل: هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنهتك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم. ثم قال: {ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه} قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال؟ وأجاب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف. وعلى هذا التقدير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم. وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر. وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الأن فإذن لا تنحل العقدة إلا بأن يقال: المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم {وإنهم لكاذبون} فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} إن نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة التي هي أقرب إلينا {وما نحن بمبعوثين} بعدها. وقيل: إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الأية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب، أو لمضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين، أوهو من قولك: وقفته على كذا أي أطلعته عليه.
ثم كان لسائل أن يقول: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فأجيب {قال أليس هذا} الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء {بالحق} الذي حدثتموه؟ {قالوا بلى وربنا} وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار؟ فأجيب {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع، وذلك أن جوهر النفس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت. فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال ولا ربح وذلك قوله: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها. عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم لأحد هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفًا واختيارًا وملكًا وملكًا. وحمل اللقاء على الرؤية أيضًا غير بعيد عند أهل السنة. وحتى غاية ل {كذبوا} لا ل {خسر} لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلوح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل: ما هو إلا ساعة الحساب، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال: {بغتة} أي فجأة. وانتصابها على الحال أي باغتة من بغته إذا فاجأه، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء {قالوا} عامل {إذ} {يا حسرتنا} مثل {يا ويلتي} [الفرقان: 28] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك {على ما فرّطنا} أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك. وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم. أما الضمير في {فيها} فقال ابن عباس: أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا.